دماء في ماء

لم يكن بتلك السهولة مطلقاً. لقد تخليت عن مستقبلي كبطل رياضي في بلادي، بما كنت أجنيه من 3000 فورنت شهرياً، وبفرصة تمثيل هنغاريا في ثلاثة أولمبياد مقبلة، كنا بلا شك مرشحين للحفاظ فيها على الميدالية الذهبية، مقابل أن أكون لاجئاً في بلاد لا أتكلم لغتها ولا أجد سبيلاً لتسويق مواهبي فيها. لم يكن قراراً سهلاً مطلقاً لكنني لم أجد بداً من ذلك، خصوصاً مع تنامي كرهي للنظام القائم آنذاك وللشيوعيين من أبناء جلدتي الذين مكّنوا للروس في بلادي. ولكن مهما حدث خلال الستين سنة الماضية فإني لا أشعر بالندم على أية لحظة!

عربي بوست
تم النشر: 2015/12/28 الساعة 03:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/12/28 الساعة 03:25 بتوقيت غرينتش

يعرفون طبيعة هذا الشعب/وجهاده/وبذله/وتضحيته

لذلك تآمروا عليه/وأغرقوه في حمّامات الدم، وصولاً إلى تهجينه/وتدجينه

وعندها، لم تقم للعرب قائمة

عبد الله الناجي، حمّامات الدم في سجن تدمر

المحقق: في 23 أكتوبر/تشرين الأول 1956، انطلقت مظاهرة خجول.. قادها طلاب من جامعة بودابست للتكنولوجيا والاقتصاد، سرعان ما تصاعدت لتصل إلى انتفاضة كاملة ضدّ الحكومة السوفيتية. ظن الشعب الهنغاري لوهلة أنه قاب قوسين من الانعتاق من ربقة الاتحاد السّوفيتي. ولكن في 1 نوفمبر/تشرين الثاني، بدأت الدبابات السوفيتية تسحق بجنازيرها أراضي هنغاريا، ومن 4 نوفمبر إلى 10 نوفمبر، اتخذ الهجوم السوفييتي أشكالاً شتى لإيقاف الانتفاضة سواءً بالضربات الجويّة، أو بالقصف المدفعي، إضافة إلى العمل المنسق مع المشاة والدبابات..

إروين زادور، أين كنت حينها؟
زادور: عندما اندلعت الانتفاضة، كان منتخبنا لكرة الماء في معسكر تدريبي جبلي فوق بودابست تحضيراً لأولمبياد ملبورن في العام نفسه فقد كان منتخبنا هو حامل اللقب الأولمبي للدورة السابقة في هلسنكي قبلها بأربع سنوات.

المحقق: وكيف كان تفاعلكم مع الانتفاضة؟
زادور: كنا من هناك، أي من المعسكر، نسمع صوت الأعيرة النارية ودوي المدافع ونرى الأدخنة. ولكن نظراً لأنه لم يكن متبقياً على انطلاق الألعاب الأولمبية في ملبورن سوى أقل من شهر، ارتأت الإدارة أن نتحرك بسرعة إلى تشيكوسلوفاكيا ولاحقاً إلى أستراليا، فلم يمكننا التنبؤ حينها بما ستسفر عنه الأحداث المتصاعدة.

المحقق: هل اتخذتم كأفراد أو مجموعة رأياً محدداً تجاه تلك الأحداث؟
زادور: في الواقع، رؤانا عن الانتفاضة لم تتشكل فعلياً إلا بعد وصول بعثة المنتخب إلى أستراليا وإدراك البعد الحقيقي للثورة عندما رأينا الحيّز المهم الذي احتلته في تغطية الإعلام هناك، خصوصاً إزاء التدخل العنيف للسوفييت. وقد كنا جميعاً متلهّفين لمعرفة أخبار البلد وفي الوقت نفسه قلقين على سلامة عوائلنا وذوينا. في القرية الأولمبية بعد أيام من وصولنا إلى ملبورن، بطبيعة الحال، رفع المسؤولون علم الحكومة الشيوعية أمام مقر البعثة، لكنهم تلقوا العديد من المطالبات بتغيير العلم إلى الذي تبنته الثورة في هنغاريا. وذات ليلة قام أشخاص بتمزيق النجمة الحمراء من وسط العلم، ووضعوا مكانها شعار كوشوت العسكري كرمز وطني هنغاري.

المحقق: كيف أثرت الأحداث على أدائكم الرياضي في المنافسات الأولمبية؟
زادور: رأينا كرياضيين أن الألعاب الأولمبيّة في ملبورن قد تكون خير محفل لمساندة قضية الشعب الهنغاري. شعرنا بأنّنا كنّا نلعب ليس فقط لأنفسنا ولكن لبلادنا كلها. صحيح أن الحضور الجماهيري من مختلف البلدان كان يبدي تعاطفاً معنا بهتافاته المشجعة بعد كل هدف نسجله، لكننا بحكم الخبرة الواسعة اجتزنا الفرق واحدة تلو الأخرى، ودون عناء يذكر، بريطانيا، وأميركا، وألمانيا، وإيطاليا، قبل أن تأتي مواجهتنا المرتقبة مع المنتخب السوفييتي، ثم اليوغسلافي.

المحقق: وهذا ما أريد أن أسألك عنه بالضبط؛ مباراتكم مع منتخب الاتحاد السوفييتي، يوم 6 ديسمبر/كانون الأول.
زادور: أحيطت المباراة بهالة إعلامية سبقها الإنجاز المذهل للملاكم الهنغاري لازلو باب الذي توّج للتو بذهبيته الأولمبية الثالثة..

المحقق: هل كنتم ستستعينون به لملاكمة الروس؟
زادور (يضحك): لربما كان مفيداً لنا أيضاً!

المحقق: ماذا جرى في مباراتكم؟
زادور: كانت البداية عادية جداً. أذكر أننا كنّا نحاول الاستفادة من أفضلية معرفتنا باللغة الروسية، ولم يتوانَ لاعبونا عن استفزاز الروس بلغتهم! لم تخلُ المباراة طبعاً من تبادل الركلات واللكمات خفيةً بيننا وبينهم..

المحقق: ثم افتتحتَ التسجيل بإحرازك هدف المباراة الأول..
زادور: نعم كنت في ذروة مستواي وسجلت هدفين، وكان حماس الجمهور في المقاعد منقطع النظير. قبيل نهاية الوقت كانت غلتنا قد تضاعفت إلى أربعة أهداف دون مقابل، ثم حدث ما حدث..

المحقق: ما الذي حدث؟
زادور: حدة المناوشات بين لاعبي الفريقين لم تتوقف طيلة الأشواط، بل امتدت إلى لاعبي الاحتياط أيضاً. لكن التوتر بلغ ذروته عندما لكمني فالانتاين بروكوبوف..

المحقق: كيف تم ذلك؟
زادور: سمعت صافرة من الحكم فاستدرت إليه مستفهماً عن سببها، ولكن قبل استئناف اللعب باغتني فالانتاين بضربة كوع أفقدتني توازني. كنت أرى أربعة آلاف نجمة تدور حول رأسي، ولم أشعر إلا وماء دافئ يسيل على وجهي؛ لقد كان دماً نازفاً من الجرح الذي سببته ضربة فالانتاين! اضطر الحكام لإخراجي من المسبح. سادت فوضى عارمة في المسبح الأولمبي ودخلت الشرطة لضبط الوضع، واضطر الحكام لإنهاء المباراة قبل وقتها الأصلي بدقيقة تقريباً.

المحقق: صور إصابتك نشرت في الصحافة حول العالم وشاعت من حينها تسمية تلك المباراة "حمّام الدم" نسبة إلى تغير لون الماء في المسبح إلى اللون الأحمر!
زادور: لا أعلم حقيقةً، ولكني أظن بأنها مبالغة من الصحافة!

المحقق: ماذا حدث بعد ذلك؟
زادور: بسبب إصابتي اضطررت للاكتفاء بمشاهدة زملائي يلعبون المباراة الأخيرة أمام يوغسلافيا ويفوزون دوني، لنقف جميعاً على منصة التتويج بالميدالية الذهبية الأولمبية الرابعة لفريق كرة الماء الهنغاري، في الوقت الذي أعلن فيه إجهاض الانتفاضة الهنغارية بعد أيام قليلة..

بعد نهاية مراسم الألعاب الأولمبيّة في ملبورن، قرر 48 رياضياً من أصل 108 وهو عدد أفراد الوفد الأولمبي الهنغاري الانشقاق وعدم العودة إلى هنغاريا التي أحكم الاتحاد السوفييتي قبضته عليها مجدداً، فيما شرعت الحكومة الموالية للسوفييت بملاحقة كل من كان على صلة بالانتفاضة. كنتُ مع الذين آثروا البقاء في أستراليا وطلب اللجوء إليها.

المحقق: هل كان اتخاذ قرار اللجوء سهلاً بالنسبة لك؟
زادور: لم يكن بتلك السهولة مطلقاً. لقد تخليت عن مستقبلي كبطل رياضي في بلادي، بما كنت أجنيه من 3000 فورنت شهرياً، وبفرصة تمثيل هنغاريا في ثلاثة أولمبياد مقبلة، كنا بلا شك مرشحين للحفاظ فيها على الميدالية الذهبية، مقابل أن أكون لاجئاً في بلاد لا أتكلم لغتها ولا أجد سبيلاً لتسويق مواهبي فيها. لم يكن قراراً سهلاً مطلقاً لكنني لم أجد بداً من ذلك، خصوصاً مع تنامي كرهي للنظام القائم آنذاك وللشيوعيين من أبناء جلدتي الذين مكّنوا للروس في بلادي. ولكن مهما حدث خلال الستين سنة الماضية فإني لا أشعر بالندم على أية لحظة!

المحقق: وكيف كان اغتيال الحلم الهنغاري بالنسبة لكم؟
زادور: كان مؤسفاً أن نرى الآلاف من أبناء شعبنا يتدفقون باستمرار على مخيمات اللاجئين في النمسا، ناهيك عن الآلاف أيضاً ممن اعتقلوا وسجنوا أو صدرت بحقهم أحكام الإعدام. وكم كان مؤلماً رؤية إيمري ناج، بعد أن سعى بجد لتخليص هنغاريا من حلف وارسو وبدء مرحلة جديدة، أن تراه متدلياً من حبل المشنقة أمام الجماهير بتهمة "الخيانة العظمى"! لقد قال الزعيم السوفييتي آنذاك نيكيتا خروشتشيف بأن هذا "درس لكل القادة في الدول الاشتراكية".

المحقق (يهَمْهِم): مثلما حدث مع كاظم نزار!
زادور: عفواً؟
المحقق: انسَ؛ دا واحد صاحبي ماتعرفوش.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد