تراث الرقّة في ظل حكم الدولة الاسلامية

إنَّ الرقّة، كمدينة يسكنها مئات الآلاف من الناس، اليوم، وعلى الرغم من نزوح الآلاف من أهلها الضعفاء، البسطاء الطيبين في تعاملهم مع كل من عرفهم، أو حتى لمجرد أن التقى بأحد أبنائها، يظل أكثر ما يغلب على طبائعهم المودة، وكرم الضيافة، برغم فقر ذات اليد، وهذا طبع متجذّر فيهم من الصعب أن يتركوه، لأنه تاريخ لا يمكن بحال أن يتناسوه، أو يقفوا دون علاج للواقع.

عربي بوست
تم النشر: 2015/12/18 الساعة 04:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/12/18 الساعة 04:07 بتوقيت غرينتش

بعد عام ونيّف من سيطرة "الدولة الإسلامية" وهيمنتها على الحياة المدنية في الرقّة، يبرز إلى السطح سؤال، مفاده:

ماذا حل بتراث الرقّة، بعد كل هذه الأحداث التي عصفت بالمدينة في ظل حكم الدولة الإسلامية، وتأطيرها بالكثير من الصور المؤسية التي حولتها إلى مدينة أشباح، لم تعد ترقى إلى أخواتها من المدن الأخرى، والتغيير الذي أصابها في الصميم، ما يعني تغيّر حال أهلها المعيشي، بصورة بغيضة، بعد أن أحكمَت "الدولة الإسلامية" عليها، وهمّشت، بالتالي، الكثير من ألوان الحياة التي كانت تؤجج روح المحبّة والحياة الكريمة، بروح يغلب عليها الود واحترام وجهات النظر.

أظن أنّ التراث في طريقه إلى الزوال، إذا لم يكن قد تناساه أهل الرقّة، بالفعل، وهم في الأصل من اهتموا به، وحافظوا عليه، وصانوه من الزوال، طوال السنوات الماضية.

وعلى الرغم من بساطته، يظل فيه الكثير من الشهية، بالنسبة لأبنائها، بحيث لا ينفكّ ابن الرقّة، وغيرها من المدن السورية، في وقتها، أيام كانت الرقّة، لها وهجها واحتفالياتها، ومكانتها على الساحة الثقافية السورية، بالتغنّي به، واحتفائها بالكثير من الفنون التي كانت تحتضنها وتفاخر فيها مدينة الطبيب الراحل الأديب الكبير عبدالسلام العجيلي، الذي تعود شهرة الرقّة، في الأصل، إلى ما قدمه هذا الأديب، من إنجازات ومن مكانة لا يزال يتذكرها الكثير من أبنائها، وكان نجماً، ليس على مستوى سوريا فحسب، وإنما سطع بريقه في كل البلاد العربية، كرائد للقصّة القصيرة وروائي، وكاتب مقالة متجدّد، وكان تحفة الرقّة التي أنجبته، ومن حق أبنائها اليوم، وحدهم الاحتفاء به، والتمجيد بعطاءاته، والتفاخر به.

واليوم، وبعد أن تحوّلت الرقّة إلى ولاية، تنضوي تحت حكم الدولة الإسلامية، نجد أن ذاك البريق تحوّل فجأةً إلى مجرد خواطر عابرة في تاريخها الموغل في القدم، وتراثها الأصيل الذي لا يمكن بحال تهميشه، أو التغاضي عنه.

وإذا ما عدنا إلى ما كانت عليه في سابق عهدها، فإنّها تراجعت كليةً عن احتفالياتها، وبما يعود عليها كل ذلك بمكانتها، وسحرها، كمدينة فراتية، تعلّل واقعها الحالي بالآمال، إلى تحوّل جذري لم يعد بالإمكان أن تخطو خطوات جديدة بالاتجاه الذي يرغب فيه أبناؤها الذين تراهم يحاولون تجديد كل ما من شأنه أن ينذر بالتسوية التي يمكن معها أن تقضي على أي تناحر يخفّف إلى حدٍّ ما من وطأة المُصاب الذي نقش في قلوب أهلها الآهات!

وفي هذه العجالة، نقولها:

إنَّ الرقّة، كمدينة يسكنها مئات الآلاف من الناس، اليوم، وعلى الرغم من نزوح الآلاف من أهلها الضعفاء، البسطاء الطيبين في تعاملهم مع كل من عرفهم، أو حتى لمجرد أن التقى بأحد أبنائها، يظل أكثر ما يغلب على طبائعهم المودة، وكرم الضيافة، برغم فقر ذات اليد، وهذا طبع متجذّر فيهم من الصعب أن يتركوه، لأنه تاريخ لا يمكن بحال أن يتناسوه، أو يقفوا دون علاج للواقع.

إلى أبناء الرقّة وأهلها الذين يغسلون الذنوب بالصبر والتأني والتغلب على كل ما هو مؤسٍّ في حياتهم اليوم، والذي جبلها بألوان متعدّدة من المحبة التي يفاخرون بها، وهم في واقع الحال أهل لهذا التفاخر.

وإلى أهلنا، هناك، نقول: رغم ترهّل الواقع ومراراته التي يعيشونها، فإنّهم يظلون أهل حماة، ونخوة وأصالة، وبهم سنظل نرقب طور الحياة التي تزداد قسوّة عليهم، وتحمّلوا كل ما من شأنه أن يحيي في نهاية المطاف أصالتهم التي يتغنّون بها، وعربون وفاء إلى جدائل أمهاتنا، وأخواتنا، وكل من نعرف، فأنتم تحملتم، وبكل حذر، الكثير من صنوف التأطير التي أصابتكم في الصميم!

فالدولة الإسلامية استصدرت الكثير من القرارات، التي يغلب عليه التشدّد، استطاعت أن تؤطر الدور الذي ينتظر ابن الرقّة، ما جعلته يعيش في طابع مدني جديد لم يألفه من ذي قبل، ورغم ذلك تحمّل الكثير من تبعات القرارات التي بادرت باستصدارها تباعاً، وتركت هذه القرارات عناوين سخط كبيرة، ولم ترحم أحداً من نتائجها العكسية، فكانت مثال السكين التي تقطع رقاب كل من يُحاول أن يُخالف فقرة أو بنداً من هذه القرارات، أو يلوذ بعيداً، تحسباً لنتائج ذلك!

ويمكن أن نقول، وبثقة، إن تراث الرقّة في طريقه إلى التواري، بعد أن أحكمت "الدولة الإسلامية" الجليلة سلطانها وجبروتها، وأخضعت أهلها البسطاء إلى تعليماتهم السَمْحة، وهمجيتهم التي لم يسبق وأن عرفناها أو سمعنا بها، وهدفهم هو انصياع أهلها إلى رغباتهم، ومن ثم التنكيل بهم، وممارسة أشد أنواع العذاب، بحيث يبعدونهم عن دينهم الأساس الذي جبلوا عليه، وهم ليس بحاجة لمن يرشدهم ويعلم أساسياته، وعن كل ما يمكن أن يجعل ناسها محبوبين مرغوباً فيهم، وهم كذلك، إلا أن يد السلطان تصرّ دائماً على حشرهم في ثوب غير ثوبهم، وجرّهم إلى أفكار لم تكن في يوم ما تعني بالنسبة لهم شيئاً. وطمس التراث والزيّ الذي يفاخرون به، الذي كان ومازال هو أساس حضارتهم وبقائهم، والرمز الحقيقي الذي يربط، وبصورة دائمة، بمدينتهم التي يعتزون بها أيما اعتزاز، وهذا ما يعرف به أهلنا في الرقّة الحبيبة.

ويكتفي أبناء الرقّة، برغم عسرهم الشديد، بالدعاء والالتزام بالصمت بعيداً عن اتخاذ أي إجراء يُخالف ما يرسمونه يومياً، تلافياً لأي مخالفة قد يقعون فيها، ما يجعلهم مجرّدين من أي لواعج يمكن معها أن تؤلّب أوجاعهم، وتحسم مشكلة القائمين على ولاية الرقّة التي صارت حقيقة قائمة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد