في 22 نيسان 2014، تمّ انعقاد أوّل جلسة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في لبنان، وذلك بحضور 124 نائبا من أصل 128. إلّا أنّه عندها، لم ينل أي مرشّح، خلال الدورة الأولى من الاقتراع، غالبية الثلثين من مجلس النواب المنصوص عليها في المادة 49 من الدستور (الفقرة 2: "ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفي بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي"). وعند الشروع في عقد الدورة الثانية للانتخاب بعد لحظات من انتهاء الدورة الأولى ، تمّ انسحاب عدد كاف من النوّاب (من قوى 8 آذار)، متسبّبين بذلك بتعطيل انتخاب رئيس للجمهورية بفقدان النصاب المطلوب لانتخابه.
وحسب المادة 75 من الدستور، "إن المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية ويترتب عليه الشروع حالا في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أي عمل آخر". فلذلك، منذ تاريخ الجلسة الأولى، وبعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في 25 أيّار 2014، تمّ انعقاد 31 جلسة اقتراع خلال ما يقارب ال18 شهرا، كرّر خلالها مجلس النواب فشله في انتخاب رئيس للجمهورية، بسبب تعمّد الفريق السياسي نفسه بعدم تأمين النصاب الدستوري المطلوب لانتخاب الرئيس، وتحت ذريعة عدم التوصّل إلى اتّفاق مسبق بين القوى الأساسية على شخص رئيس الجمهورية.
إلّا أنّه وبسحر ساحر، وبعد أخذ وردّ وهرج ومرج من المواقف المتبادلة مؤخّرا والمؤتمرات الصحافية النارية والمشاحنات والمفاوضات الشاقّة والمضنية، تم الاتّفاق فجأة، في 11 تشرين الثاني 2015، بين القوى السياسية الأساسية من 8 و 14 آذار (ما عدا حزب الكتائب الذي أصرّ على موقف مبدئي يسجّل له)، على عقد جلسة لمجلس النوّاب في اليوم التالي. جلسة في القاعة نفسها التي يتمّ فيها انتخاب رئيس الجمهورية، وبالنصاب نفسه المطلوب لانتخاب رئيس الجمهورية، ولكن ليس لانتخاب رئيس الجمهورية، بل للتصويت على بعض القوانين في ما اصطلح على تسميته إبداعا بتشريع الضرورة.
طبعا، إنّ القوانين التي يعمل على تمريرها في هذه الجلسة مهمّة، لا سيّما الماليّة منها والتي تتعلّق بتسيير شؤون الدولة. ولكنّ المشكلة الأساسية تقع في مخالفة هذه الجلسة لأحكام المادة 75 من الدستور آنفة الذكر، سيّما وأنّ هذا النصّ غير قابل للتأويل ولا يحتمل أي استثناء، وذلك لاحتوائه على نهي واضح وصريح عن قيام مجلس النواب بأي عمل غير انتخاب رئيس للجمهورية في حال خلوّ سدّة الرئاسة.
ولا يمكن لكلّ الفذلكات القانونية، والدعايات السياسية من جميع الأفرقاء، والضخّ الإعلامي المستمرّ الذي يحاول الترويج شعبيّا لهذا الاتّفاق تحت شعار إنقاذ البلد، سيّما في ظلّ بشاعة التفجيرات الارهابية الأخيرة في برج البراجنة، أن يغيّروا في طبيعته غير الدستورية. ما بني على باطل هرطقة دستورية كتشريع الضرورة، فهو باطل. فكلّ إتّفاق على خرق الدستور، حتّى ولو جمع ألدّ الخصوم، حتّى ولو أزال الجفاء بين الحلفاء، وترافق بهمروجة فلكلورية من التكاذب والتآخي المفاجئ والعناق وابتسامات الرضى المتكلّفة، هو اتّفاق باطل شكلا ومضمونا.
فبالإضافة إلى كون التشريع في ظلّ غياب رئيس للجمهورية يشكّل خرقا لمبدأ توازن السلطات (الفقرة "ه" من مقدّمة الدستور)، فمن غير المنطقي أن يُصار إلى اعتماد قوانين دون وجود رئيس للجمهورية لكي يمارس صلاحيته، في حال ارتأى ذلك، بالطعن بدستوريّة هذه القوانين أمام المجلس الدستوري، طبقا لأحكام المادة 19 من الدستور. كما أنّ التشريع دون وجود رئيس للجمهورية يمكن أن يعني عمليا أن لا أهمية لوجوده على رأس الدولة. أي بكلام آخر، وكانّه لا قيمة فعليّة في التركيبة اللبنانية للمركز الدستوري الأوّل الذي يعود، بحسب اتّفاق الطائف (وقبله ميثاق 1943)، لمكوّن أساسي في لبنان: الطائفة المسيحية (الموارنة على وجه التحديد). وإذا تمّ التفريط بحقوق طائفة معيّنة اليوم، ولو برضى الحزبين الأكثر تمثيلا فيها (التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، لقاء إدراج قانون استعادة الجنسية على جدول أعمال جلسة تشريع الضرورة)، فلا شيء يمنع أن يتمّ غدا التفريط بحقوق طائفة أخرى برضى أو حتى بعدم رضى ممثليها، سيّما وإن كانت من الطوائف التي لا تمتلك الأحزاب المحسوبة عليها السلاح الوازن في السياسة.
كلّ ذلك يشكّل سابقة خطيرة من شأنها، خصوصا في حال تكرارها وربّما تعميمها في المستقبل، أن تشيع الفوضى الدستورية وأن تخلخل أسس العقد الاجتماعي اللبناني، ممّا ينذر بعواقب وخيمة على البلد. فالمشكلة الفعلية ليست في الدستور الطائفي (على علله الكثيرة)، بقدر ما هي في عدم تطبيقه، وخرقه بشكل مستمرّ ومتعدّي. فبعيدا عن المزايدات الشعبوية والكلام التيئيسي والتحسّر على الذات، إلّا أنّه يبدو جليّا أنّنا كلبنانيّين أصبحنا عاجزين حتّى عن الالتزام بتطبيق دستور طائفي، ونفضّل تغليب مصلحة الأشخاص الآنية ( زعماء الطوائف)، وطموحاتهم الفردية حتّى على مصلحة الطوائف التي يسودون عليها بشكل خاص، وطبعا على المصلحة الوطنية العليا بشكل أعمّ.
في المحصّلة، ما حصل ليس حلّاّ قانونيا لأزمة حكم، بل ترقيعا سياسيا آخرا بانتظار الحلّ. ما جرى عمليّا ليس التسوية المنتظرة منذ شهورعلى تطبيق الدستور، بل تسوية ضد الدستور. انتظرنا مطوّلا اتّفاقا بين جميع الأفرقاء لصالح دولة القانون والمؤسّسات، فجاء الاتّفاق ضد دولة القانون والمؤسسات. يبدو أنّه أثناء كلّ هذه الشهور من الانتظار، كان الاتّفاق مخبّأ بين حرفي الضاد والدال، ينعم بدفء هذه الخسفة الموجودة بين التفخيم والترقيق. حرفان فقط كانا كفيلين بإنجاز الاتّفاق، ولكن هما حرفا الخطأ الجسيم. وكأنّ اللبنانيّين وممثّليهم أصبحوا غير قادرين على الاتّفاق والتعاون فيما بينهم إلّا على الإثم ضد الدستور، والعدوان ولو معنويا ضد الدولة وقوانينها وأنظمتها ومؤسّساتها. فلنفرح ونزغرد كعادتنا اللبنانية الأصيلة. فلنفخر بإنجازنا العظيم، وباختراعاتنا القانونية، واجتهاداتنا الابداعية المميّزة التي لا مثيل لها في العالم أجمع. هنيئا لنا باتّفاق شكلي يحمل في جوهره بذور الاختلاف الكبير، والفرقة، والتشرذم. هنيئا لنا باتّفاق ضد العيش المشترك، وضد مصلحة البلد، وضد أنفسنا. ولكن عذرا، لن نقول مبروك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.