الاستثمار بين المنفعة الاجتماعية وشبكة المنتفعين

هذه الطريقة في التعامل لم تخلّ منها الثلاثين سنة الماضية؛ وعندما نتحدث عن تهريب الأموال فإننا نقصد في جزء منها حالات كهذه جرى تسريب أموال المصريين للخارج بعمليات لا قيمة لها تزيد من المعاناة الاجتماعية رغم أنها في مظهرها مشروعات تجري هنا أو هناك.

عربي بوست
تم النشر: 2015/11/13 الساعة 04:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/11/13 الساعة 04:41 بتوقيت غرينتش

فارق بين البرجوازية الأوروبية في مطلع القرن الحديث، بل وحتى طبقة البشوات المصريين في بداية القرن الماضي وما حصل في مصر خلال الثلاثين السابقة.. فنحن أمام نموذجين يستحقان المقارنة بعناية.

فعادة ما نضرب بالتاجر الأوروبي المثل في الاستغلال واستخدام كافة أساليب الاحتيال لتحقيق الربح بما في ذلك استخدام القوة ومحو شعوب كاملة من على الخارطة كما حدث مع عشرات الملايين من الأفارقة والهنود الأميركان. لكنا ابتلينا في بلادنا بمن هم أسوأ وأضل سبيلا.

إذ يبقى التاجر الغربي في صورته الشائنة المعروفة خارج أوروبا هو في أوروبا شخص غاية في دماثة الخلق والانتماء لوطنه والإخلاص لشعبه. فأوروبا التي تعرفها اليوم هي صناعة البرجوازية الأوربية – المصطلح مشتق من تعبير سكان الأبراج – التي حققت ثروات طائلة استعملتها في تطوير شعوبها والنهوض بدولها.

بينما حالة رجال الأعمال المصريين – وربما العرب -فلا يمكن أن تصف رابطتهم إلا بكيان طحلبي يتغذى على الشعوب ولا يرتقي بها. فمصدر ثراء البرجوازية الغربية كان استثمار الملكات الغربية والشعوب الأخرى ليتنتقل العوائد إلى البلاد الأوروبية؛ بينما الحركة عكسية لدى رجال أعمالنا، فمصدر ثرائهم هو تجريف أموال مواطنيهم بكل طريقة وتصديرها للخارج.

مقارنة بسيطة بين الأموال الواردة والخارجة من الحافظة المصرية خلال العشرين سنة السابقة تجعلك تفتح فاهك مندهشا.. فالفقراء هم من يصبون المال للداخل، كالعمالة المصرية في داخل الوطن (ضرائب) أو في الخارج كالخليج (تحويلات)، بينما المستثمرين يعيدون ضخها للخارج سواء في صورة نواتج بيع خدمات أو بضائع استهلاكية أو نتائج الحصول على عمولات تسليم السوق أو بيع أصل من الأصول المصرية لمشروع أجنبي يقوم بتفكيك الأصول والسيطرة على السوق؛ وسواء الأرباح أو العمولات يجري تحويلها للخارج للإخفاء أو للاستثمار.

ولا عجب أن الاحتياطي النقدي دائما في حالة من النحافة التي لا تمنعه من الموت إلا بركة هذا الشعب.

الأمر ليس أحسن حالا في دول الخليج العربي الغنية، غير أن مصادر الدخل المحلية هائلة كالبترول لا تجعلك تلاحظ في المدى القصير عملية تبخر المداخيل وهروبها للخارج؛ لكن المسألة المصرية مختلفة لأننا أمام دولة كانت تحقق فوائض مالية جيدة لعهد قريب ربما حوالي سنة 1980 رغم كل التشويه الذي لحق أبنيتها الاقتصادية بسبب مغامرات الجنرالات الذين حكموا البلاد؛ وأنت أيضا أمام دولة بمؤهلات تجعلها قابلة لأن تصبح عملاقا اقتصاديا في الإقليم في وقت قصير، وأمام اقتصاد حجمه ضمن الاقتصاديات المتوسطة المؤهلة للنمو المتسارع.

لكن المشكلة تتعلق أساسا بإدارة الدولة التي استبدلت شبكة المنتفعين بالمنفعة الاجتماعية؛ فسياسات حكومات مبارك والتي عادت مع الجنرال الحاكم حاليا لا تستند إلا إلى أدواته الخاصة وليس إلى أدوات الدولة.. بل إن أدوات الدولة مسخرة لتحقيق مصلحة تلك الأدوات الخاصة؛ فالقرارات الاقتصادية تصدر لتحقق مصلحة فئة محظوظة من أهل السلطة دون دراسة كلفتها الاجتماعية ولا آثارها على الشعب.

المسألة بسيطة لو أخذت مشروع قناة السويس مثلا، فلو أعدت احتساب ميزاته بالنسبة لشبكة المنتفعين في السلطة فهو قد حقق الغرض منه، فما لا يقل عن سبعة مليارات أو ثمانية مليارات دولار خرجت إلى الخارج لصالح رجال أعمال أو نافذين في مؤسسة الجيش لاستئجار أدوات الحفر، سواء بتكوين وكالات حفر تقوم بدور الوسيط دون أن يكون لها أدنى خبرة، أو بالتوسط لدى شركات كبرى أو بتحقيق منفعة أدبية للبعض بمنح مزايا للمناصرين والمؤيدين دوليا أو داخليا.. لكن على المستوى الاجتماعي فإن الآثار مدمرة، ففي الوقت الذي تعاني فيه الدولة من عدم قدرتها على تدبير نفقات استيرات مواد أساسية وتعاني من انهيار في بنيتها التحتية فإن بضعة مليارات من الدولارت جرى دسها في جيوب المنتفعين.

هذه الطريقة في التعامل لم تخلّ منها الثلاثين سنة الماضية؛ وعندما نتحدث عن تهريب الأموال فإننا نقصد في جزء منها حالات كهذه جرى تسريب أموال المصريين للخارج بعمليات لا قيمة لها تزيد من المعاناة الاجتماعية رغم أنها في مظهرها مشروعات تجري هنا أو هناك.

بدراسة سريعة لعصر كولبير (1616 – 1683) – وزير المالية الفرنسي في عهد لويس الرابع عشر – والذي ترعرع في بيئة برجوازية ورأس مالية تماماً، فإنه بمجرد أن تولى مهمته كوزير مالية كان أكثر المتبنين للسياسات الحمائية للصناعات الفرنسية والمضيقة على الاستيراد والداعمة للصناعة الوطنية؛ بمعنى أنه تحول بقدرة قادر إلى اشتراكي لمجرد أنه أدرك أن المصلحة الاجتماعية في هذه اللحظة كانت تحتاج لتلك السياسات الحمائية. فهو يعبر عن طبقة ثرية تُدرك أن سفينة الوطن يجب أن تكون قادرة على الإبحار لأن سرقتها ونهبها يعني إضعافها ومن ثم غرقها بكل طبقات من يعيشون عليها.

على العكس تماما فإن السياسات الحكومية لدينا تستند إلى توجهات الجنرال الذي يحكم ومدى رضا شبكة الفساد التي تُسانده لآخر جنيه قديم بحافظة مواطن فقير؛ وبالتالي فإن السياسات الانفتاحية أو الحمائية يجري تبنيها وفقا لمدى تحقيقها لمصلحة تلك الشبكة. فحتى الحديث عن البنية التحتية في عهد مبارك جاء متزامنا مع تكوين شبكة فساد نظامه لشركات ترتزق من ذلك، ولن ينسى المصريون إعادة رصف أرصفة الطرق ببلاط لمجرد أن شركة محظوظة تكونت لإنتاجه بأردأ ما يُنتج به بلاط الشوارع. وكذلك فإن الحديث عن الخصخصة جاء بعد تكون شبكة علاقات بين شبكة فساده وشركات عالمية اتجهت للاستحواز على الشركات المصرية أو للتخلص من منافستها في السوق الداخلي المصري أو الخارجي الإفريقي.

نحن أمام استحالة لتحقيق أي نمو حقيقي أو رخاء معقول ما لم تتغير تركيبة السلطة وتتبدل مفاهيم الاستثمار ليُصبح استثمارا يُراعي المنفعة الاجتماعية، مدركاً أن المنفعة الفردية للمشروع الاستثماري ترتبط بتحقيق المنفعة الاجتماعية، وأن إهدار مصلحة المجتمع يعني فشل تكوين أي مناخ استثماري، ولا يسمح إلا بأجواء ينمو فيها السماسرة ويثرى فيها وكلاء الشركات الأجنبية، بينما تستمر قدرة المجتمع في التراجع حتى يصل لدرجة يعجز فيها عن تحمل كلفة شبكة الفساد، فتنهار الدولة وينتقل الشعب لحالة مختلفة من المعاناة.

ومن جديد يجد المصريون أنفسهم أمام استحقاقات للتغيير السياسي إذا رغبوا في تحقيق تغيير اقتصادي إيجابي..

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد